العيد في المخيال الإسلامي ليس مجرد فسحة للفرح، بل هو شعيرة تحمل أبعادًا دينية واجتماعية متداخلة. ومن أبرز معالمه الأضحية، التي ما لبثت أن تحولت مع مرور الزمن إلى رمز يعبّر عن القرب من الله، ويجسد قيم الكرم والتكافل مع المحتاجين. وقد ورد عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يحرص على ألا يُذبح أضحيته حتى يضمن أن الفقراء قد نالوا نصيبهم من اللحم، في إشارة إلى أن الغاية تتجاوز الطقس لتلامس جوهر العدالة الاجتماعية. كما يُروى أن أهل المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتهادون اللحم في العيد، حتى لا يشعر أحد بالحرمان، وتصبح الفرحة جماعية لا فردية.
لكن، ما الذي يحدث لو غابت الأضحية؟ هل يظل للعيد وقعه ذاته؟ سؤال بات يثير نقاشًا واسعًا بين المسلمين، خاصة مع تزايد الدعوات التي تطالب بالتقليل من الذبح أو حتى التخلي عنه، لأسباب أخلاقية، بيئية، أو اقتصادية.
الجدل حول إلغاء الأضحية، سواء جاء من جهات حكومية أو مرجعيات دينية، يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية: هل تمثل الأضحية ركنًا لا يُمس من طقوس العيد؟ أم أن جوهر العيد يمكن أن يُستحضر بأساليب أخرى؟ وما طبيعة البراهين التي يستند إليها كل من الفريقين؛ المؤيدين والمعارضين؟ في هذا المقال، سنحاول أن نلامس هذه القضية من زوايا متعددة، مستعرضين الآراء المختلفة، ومحللين منطقها، على أمل بلوغ رؤية متوازنة.
لماذا الأضحية ضرورية؟
1 – الأضحية كفريضة رمزية
لا يعتبرها الفقهاء التقليديون مجرّد طقس موروث، بل يرون فيها شعيرة تعبّدية لها جذورها في القرآن والسنة. إذ يروي القرآن مشهد ذبح إبراهيم لابنه إسماعيل، ثم افتدائه بكبش، كمشهد تأسيسي لهذه الفريضة. وتأتي الأحاديث النبوية لتعزّز هذا المعنى، كما في قول النبي ﷺ: “ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدماء” (رواه الترمذي).
فالمبرر هنا ديني صرف: الأضحية فعل طاعة وتجسيد للخضوع لله، كما هو الحال في الصلاة والحج. والتخلي عنها لا يعني فقط تغييرًا في العادات، بل هو في جوهره تنحية لركن من أركان التعبّد.
2 – البُعد الاجتماعي والتكافلي
ليست الأضحية مجرّد عبادة شخصية، بل تحمل في مضمونها بُعدًا اجتماعيًا بالغ الأهمية. في كثير من البيئات الفقيرة، تُعدّ لحوم الأضاحي موردًا غذائيًا أساسيًا، يُعتمد عليه سنويًا لتوفير البروتين الحيواني. وتشير الإحصاءات إلى أن ملايين الأسر حول العالم تعتمد في غذائها على لحوم العيد.
وعليه، فإن إلغاء الأضحية قد يُفضي إلى حرمان الفقراء من مصدر هام، ما لم يتم توفير بدائل واقعية كالتبرعات النقدية أو برامج الدعم الغذائي المنظّمة.
3 – الأضحية كهوية جامعة
منذ زمن النبي ﷺ، شكّلت الأضحية جزءًا لا يتجزأ من أجواء العيد. إنها ليست فقط شعيرة دينية، بل مكوّن من مكونات الذاكرة الإسلامية الجماعية. وإلغاء هذا المظهر قد يُفقد العيد شيئًا من بريقه الروحي والاجتماعي، ويضعف من شعور المسلمين بوحدتهم ومشاركة فرحتهم في زمن واحد، رغم اختلاف أماكنهم.
لماذا قد يتم التفكير في إلغاء الأضحية؟
1 – مسألة حقوق الحيوان والمعاملة القاسية
في السنوات الأخيرة، ازدادت الأصوات المنتقدة للطرق التي يُعامل بها الحيوان أثناء الذبح، خاصةً بعد انتشار مشاهد تظهر ممارسات قاسية في بعض المسالخ. هذا الأمر دفع بعض الحركات إلى اقتراح التبرع النقدي كبديل عن الذبح، بحيث يُوجَّه المال مباشرةً لإطعام المحتاجين دون الحاجة لإراقة دماء.
الحجة الأساسية هنا تنطلق من أن الإسلام قائم على الرحمة، وأن إيذاء الحيوان بطرق لا إنسانية يتنافى مع تلك القيم. كما أن بعض الدراسات العلمية تشير إلى أن بعض أساليب الذبح التقليدية قد تُسبب معاناة غير ضرورية للحيوان، ما يطرح تساؤلات أخلاقية جدية.
2 – الأضحية وأثرها البيئي
قطاع تربية المواشي يُعد من المصادر الكبرى لانبعاثات الغازات الدفيئة، وهو ما يؤثر سلباً على المناخ. تقارير منظمة الأغذية والزراعة تُقدّر أن هذا القطاع وحده يُنتج نحو 14.5% من إجمالي الانبعاثات عالميًا. في ضوء التحديات البيئية المتزايدة، يرى بعض الخبراء أن تقليص عدد الأضاحي أو البحث عن بدائل أكثر استدامة لم يعد مجرد خيار، بل أصبح ضرورة بيئية.
3 – الأضحية بين العبادة والإسراف
في بعض المجتمعات، تحوّلت الأضحية من عبادة إلى مظهر اجتماعي يُستخدم للتفاخر، حيث تُصرف مبالغ ضخمة على شراء أضاحي باهظة. في المقابل، يمكن لهذه الأموال أن تُوظَّف في مشروعات تنموية أكثر فائدة للمجتمع. البنك الإسلامي للتنمية، مثلاً، يقترح تخصيص جزء من أموال الأضاحي لمبادرات مستدامة كإنشاء مدارس أو مراكز صحية، بما يعزز من الأثر الإيجابي طويل الأمد للعبادة.
هل بالإمكان الوصول إلى نقطة توازن؟
النقاش المتجدد حول الأضحية يُجسّد حالة من التوتر بين التقاليد الدينية ومتطلبات الواقع العصري. فهل من سبيل للجمع بين الإيمان ومتغيرات العصر دون تفريط أو تصادم؟
-
ذبح يراعي إنسانية الحيوان: من الممكن وضع معايير دقيقة تضمن تقليل الألم أثناء الذبح، دون الإخلال بأحكام الشريعة.
-
خيار بديل عند الضرورة: بعض العلماء المعاصرين أجازوا التبرع بثمن الأضحية نقدًا للفقراء، في ظروف خاصة.
-
جوهر العيد قبل مظهره: ما يجعل العيد عيدًا هو الطاعة والنية الصادقة، ويمكن تعزيز هذا المعنى من خلال أعمال الخير المتنوعة، وليس حصريًا عبر الذبح.
في نظري، تبقى الأضحية من الشعائر العظيمة، لكنها ليست الهدف النهائي. لو أصبحت عبئاً على البيئة أو على الناس اقتصادياً، أو وُجدت وسائل أنفع لتحقيق مقاصدها، مثل إطعام المحتاجين بشكل أكثر فاعلية، فلابد من إعادة النظر في كيفية ممارستها، دون المساس بجوهرها الديني.
الاحتفال بالعيد دون أضحية؟ المسألة ليست بسيطة، فهي تمس أعماق العقيدة والتقاليد الراسخة. البعض يرى في الأضحية رمزاً لا يُمكن التخلي عنه، بينما آخرون يرون ضرورة تجديد الممارسة بما يتماشى مع التحولات الأخلاقية والبيئية في عصرنا.
الحل العادل قد يكون في التوازن: الحفاظ على الأضحية كشعيرة، ولكن بضوابط تمنع التبذير والضرر، وتفتح المجال لبدائل عند الضرورة. فجوهر العيد هو التقرب إلى الله ورسم البهجة في حياة الآخرين، وهذه الغاية يمكن بلوغها بعدة سُبل.