لماذا لا يغيّرنا القرآن رغم كثرة التلاوة؟

muslim-man-praying-mosque-reading-quran_801652-1265

من أبرز الظواهر التي تُثير التساؤل في حياة الكثير من المسلمين هي أنهم يتلون القرآن الكريم بانتظام، بل إن بعضهم يحفظه كاملًا، ومع ذلك لا يجدون أثرًا عميقًا لتلاوته في سلوكهم أو أخلاقهم أو نظرتهم إلى الحياة. هذا التناقض بين كثرة التلاوة وقلّة التأثير يُثير إشكالًا عقليًا وأخلاقيًا: إذا كان القرآن كتاب هداية وتغيير، فلماذا لا نلمس هذا التغيير في واقعنا رغم أننا نقرأه باستمرار؟

هذا السؤال لا يتعلق فقط بالفرد، بل يمتد إلى المجتمعات الإسلامية التي تُعاني من أزمات أخلاقية واجتماعية وسياسية رغم انتشار القرآن وتلاوته في المساجد والمنازل. فعلى سبيل المثال، نرى في كثير من الدول الإسلامية ارتفاعًا في معدلات الطلاق والتفكك الأسري، وتفشّي ظواهر كالكذب، والرشوة، والنفاق الاجتماعي، إلى جانب غياب القيم الحقيقية في المعاملات اليومية بين الناس. تجد الشخص يحفظ القرآن أو يُكثر من تلاوته، لكنه في السوق يغش، وفي العمل يُقصّر، وفي الشارع لا يحترم القوانين. هل المشكلة في النص القرآني نفسه؟ أم في طريقة تعاملنا معه؟ أم أن هناك عوامل خارجية تُضعف تأثيره؟ للإجابة عن هذه التساؤلات، سنعرض أولًا بعض المواقف التي تُحاول تفسير هذه الظاهرة، ثم نناقشها نقديًا، ونختتم بمحاولة تركيبية تجمع بين الأسباب والحلول.

ضعف الإيمان وعدم التدبّر

يرى الكثير من العلماء والدعاة، مثل الشيخ محمد الغزالي، والدكتور عمرو خالد، والدكتور طارق السويدان، أن السبب الرئيسي لعدم تأثير القرآن في النفوس هو غياب التدبّر والفهم الحقيقي لما يُتلى. فالقرآن نفسه يقول: “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ” (ص: 29)، أي أن الغاية من إنزال القرآن ليست مجرد التلاوة، بل التدبّر الذي يوقظ العقل والقلب معاً.

وقد أثبتت الدراسات العلمية في علم الأعصاب أن الدماغ يتفاعل بشكل أقوى وأكثر عمقًا مع المعلومات التي تُعالج بوعي وتأمل، وليس فقط عند المرور السطحي عليها. فعندما يقرأ الإنسان شيئًا بتفكُّر، تنشط مناطق في الدماغ مسؤولة عن الفهم والتخزين طويل المدى واتخاذ القرار، مثل الفص الجبهي (Prefrontal Cortex) الذي يلعب دورًا مهمًا في التفكير المنطقي والتأمل الذاتي. وهذا يفسر لماذا التلاوة المجردة دون وعي أو تفكُّر لا تكفي لإحداث تغيير حقيقي في سلوك الإنسان أو في قلبه، بل قد تتحول مع الوقت إلى عادة لفظية لا تُنتج أثرًا. أما التدبر، فهو الذي يخلق الأثر ويصنع التحول.

ويستدلون بأمثلة من السلف الصالح، مثل عمر بن الخطاب الذي تغيّر قلبه بمجرد سماع آيات من سورة طه، أو الصحابة الذين كانوا يتعلمون عشر آيات ولا ينتقلون إلى غيرها حتى يعملوا بها. فالمشكلة – حسب هذا الرأي – ليست في القرآن، بل في القارئ الذي حوّل التلاوة إلى عادة بلا وعي.

انفصال الدين عن الواقع

يطرح بعض المفكرين، مثل محمد شحرور وحسن حنفي، أن المشكلة الجوهرية لا تكمن في النص القرآني ذاته، بل في الفجوة العميقة بين القيم القرآنية والواقع المعيش في المجتمعات الإسلامية. هؤلاء يرون أن الأنظمة السياسية والاجتماعية السائدة لا تُجسّد مبادئ القرآن مثل الحرية، والعدل، والشورى، بل تُفرغها من مضمونها، مما يجعل التلاوة مجرد طقس روحي منفصل عن الحياة اليومية.

على سبيل المثال، تُشير تقارير منظمة الشفافية الدولية إلى أن العراق، رغم كونه دولة ذات غالبية مسلمة وتنتشر فيها مظاهر التدين، يُصنّف ضمن الدول الأكثر فسادًا إداريًا وماليًا في العالم العربي. هذا التناقض بين المبادئ القرآنية التي تؤكد على الأمانة ومحاربة الفساد، وبين واقع الحياة اليومية، يجعل الفرد يشعر بأن القيم القرآنية معزولة عن التطبيق العملي، مما يُحدّ من تأثيرها على سلوك الأفراد والمجتمع.

التكيّف والاعتياد

من الناحية النفسية، يرى بعض الباحثين أن عدم التأثر بالقرآن يمكن تفسيره بظاهرة “التكيّف الإدراكي”، حيث يعتاد الدماغ على المنبهات المتكررة فيفقد الإحساس بقوتها التأثيرية. فالإنسان عندما يسمع شيئًا بشكل متكرر دون حضور ذهني أو تأمل عاطفي، يُصبح الصوت مألوفًا إلى درجة التجاهل. وهذا ما يحدث حين يُتلى القرآن في البيوت والمساجد والإذاعات؛ فكثرة التكرار دون تدبر تجعل الأذن تسمع، لكن العقل لا يتفاعل، والقلب لا يخشع، فتتحول كلمات الوحي إلى مجرد أصوات مألوفة بدل أن تكون رسائل تهز الوجدان وتحرك الإيمان.

هل التدبّر كافٍ؟

رغم صحة فكرة أن التدبّر ضروري، إلا أن البعض يشكك في كفايتها وحدها. فالكثير من الناس يُحاولون تدبّر القرآن لكنهم لا يجدون تغييرًا كبيرًا في حياتهم. ألا يعني هذا أن هناك عوامل أخرى مؤثرة، مثل البيئة أو التربية أو الضغوط الحياتية؟ بل إن من أخطر هذه العوامل ما هو غير مرئي ولا محسوس، وهو وسوسة الشيطان. فالشيطان لا يملّ من تشويش القلب وصرف العقل عن المعاني العميقة، وقد يُلبّس على المتدبّر، فيُشعره أن لا فائدة من التدبّر، أو يجعله يقرأ دون وعي حقيقي. ففهم القرآن لا يواجه فقط تحديات دنيوية، بل يقاومه عدو خفيّ وعدواني لا يريد للإنسان أن يهتدي.

أين دور الفرد؟

صحيح أن الواقع الاجتماعي والسياسي يلعب دورًا كبيرًا في تشكيل فكر الإنسان وسلوكه، وقد يشكل أحيانًا عائقًا حقيقيًا أمام التغيير والإصلاح، لكن هل يُعقل أن نظل نُحمِّل البيئة كامل المسؤولية عن عجزنا؟ إن الإنسان، في جوهره، كائن حرّ الإرادة، قادر على تجاوز القيود إذا توفرت لديه العزيمة والرؤية الواضحة. فالتاريخ الإسلامي مليء بأمثلة لأفراد استطاعوا التغيير رغم قسوة الظروف المحيطة، مثل بلال بن رباح الذي عاش في مكة المكرمة وتمرد على عبودية الجسد والفكر حين آمن بحرية الروح التي جاء بها الإسلام، رغم ما لاقاه من تعذيب على يد سادة قريش. وكذلك الإمام أحمد بن حنبل الذي وُلِد وعاش في بغداد، وصمد أمام بطش السلطة العباسية خلال محنة خلق القرآن، رافضًا الانصياع لما خالف قناعاته رغم العذاب والسجن. إذًا، قد تكون البيئة الاجتماعية والسياسية ضاغطة، لكنها لا تُسقط مسؤولية الفرد عن اتخاذ موقف أو السعي للتغيير، خصوصًا عندما يملك مرجعية قوية كمرجعية القرآن التي تهدي من اتبعها وسط الظلام.

هل الاعتياد حجة؟

الاعتياد قد يُقلل من التأثر، لكنه لا يلغي المسؤولية الشخصية. لو كان الاعتياد مبررًا، لَما تأثر السلف الصالح بالقرآن رغم سماعهم الدائم له. الفرق هو أنهم كانوا يقرأونه وكأنه يخاطبهم لأول مرة، بينما نحن نقرأه وكأنه مجرد نص مكرر.

لماذا لا نتأثر؟ وكيف نتغير؟

بعد عرض هذه المواقف، يظهر أن المشكلة ليست في القرآن نفسه، بل في طريقة تعاملنا معه، وفي البيئة المحيطة بنا، وفي إرادتنا الشخصية. يمكن تلخيص الأسباب والحلول في النقاط التالية:

  1. الانفصال بين القيم والواقع: حتى لو كان المجتمع فاسدًا،يمكن للفرد أن يبدأ بنفسه، ويبني بيئة صغيرة (أسرة، أصدقاء) تعيش بروح القرآن. وتبدأ هذه البيئة من البيت، حين يتحوّل القرآن إلى مصدر إلهام يومي في السلوك، والأخلاق، واتخاذ القرار. فيُشجّع أفراد الأسرة على تدبر آياته، وتطبيق معانيه في تعاملاتهم، فيصبح الحوار بين الزوجين نابعًا من الرحمة، وتربية الأبناء قائمة على الحكمة، والعلاقات الاجتماعية محكومة بالقيم القرآنية كالصبر، والصدق، والعفو. كما يمكن إشراك الأصدقاء والمحيط القريب من خلال جلسات قرآنية بسيطة، أو تبادل تدبرات ومعانٍ قرآنية، أو حتى تنظيم أعمال تطوعية مستوحاة من توجيهات القرآن. بهذه الخطوات البسيطة، تتحوّل البيوت إلى منارات للهدى، وتنتشر روح القرآن في تفاصيل الحياة اليومية.
  2. الاعتياد والجمود الروحي: نحتاج إلى تجديد النية في كل لحظة، وإلى قراءة القرآن وكأنه ينزل علينا الآن، بقلوب خاشعة وعقول متفتحة. يجب أن نتدبر آياته كما لو أننا نسمعها لأول مرة، ونعمل بها في حياتنا اليومية. ومن أجل فتح القلوب ورفع الحواجز التي قد تمنعنا من التأثر بكلام الله، نستعين بالدعاء، ونسأل الله أن يهدينا لفهم كتابه والعمل به، كما جاء في الحديث الشريف: “اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً”. فالقلوب لا تُفتح إلا بتوفيق الله ورحمته، وعلينا أن نلح في الدعاء بأن يرزقنا إيماناً صادقاً، ويجعل القرآن شفاءً لصدورنا وراحة لقلوبنا.
  3. غياب الفهم والتدبّر: التلاوة بلا وعي تُشبه شرب الماء بلا إرواء.الحل هو القراءة بتأنٍّ، مع الرجوع إلى التفاسير لفهم المعاني العميقة للآيات وعدم الاكتفاء بالفهم السطحي. وعند قراءة آية تمسّ مشكلتنا أو تتحدث عن سلوك معين، يجب أن نتوقف عندها، ونسأل أنفسنا: هل أنا أطبق هذا في حياتي؟ ثم نحاول وضع خطة بسيطة لتطبيقه، مثل تغيير عادة سلبية، أو اتخاذ موقف إيجابي مستمد من الهدي القرآني. فالتطبيق العملي هو ما يجعل القرآن يُحدث الأثر الحقيقي في النفس، ويحوّل القراءة من مجرد عبادة إلى وسيلة للإصلاح والتغيير الحقيقي.
  4. الإلهاءات الحديثة:في عصر التكنولوجيا والوسائل الحديثة التي تزداد تطورًا يومًا بعد يوم، أصبح من الصعب على كثير من الناس أن يجدوا وقتًا للخشوع والتركيز على القرآن. فبجانب وجود الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي التي تبث إعلانات ومنشورات لا تنتهي، نجد أنفسنا مشغولين باستمرار عن تأملاتنا الروحية. لكننا بحاجة إلى تخصيص وقت خاص للقرآن بعيدًا عن هذه المشتتات. أول خطوة هي تحديد وقت ثابت يومي بعيدًا عن التزامات العمل أو الدراسة، ويفضل أن يكون في الصباح الباكر أو في ساعات الليل الهادئة. في هذه اللحظات، يمكن أن نجد أوقاتًا ملائمة للتدبر، حيث نغلق الأجهزة الإلكترونية ونتفرغ لتلاوة القرآن بخشوع. الشيطان قد يحاول تذكيرنا بكل الأمور التي قد تشتت انتباهنا، لكن بالنية الصادقة والتركيز على أهمية هذه اللحظات الروحية، نُحصّن أنفسنا ضد تلك الوساوس.

إذن، الإشكالية ليست في القرآن، بل في علاقتنا به. فالقرآن كتاب تغيير، لكنه يحتاج إلى قارئ مستعد للتغيير. بعضنا يقرأه ليُبرئ ذمته، أو لطلب البركة فقط، دون أن يفتح قلبه لمعانيه. والبعض الآخر يقرأه في بيئة لا تُساعده على التطبيق.

لكن التاريخ يثبت أن القرآن لا يزال قادرًا على التغيير حين نقرأه بقلب حاضر، ونخاطبه كما لو كان يخاطبنا مباشرة. التحدي ليس في كثرة التلاوة، بل في عمق التأثر، وصدق التعامل مع كلام الله. فهل نستعد لهذا التحوّل؟

مواضيع ذات صلة بـ :

لماذا لا يغيّرنا القرآن رغم كثرة التلاوة؟

muslim-man-praying-mosque-reading-quran_801652-1265

لماذا لا يغيّرنا القرآن رغم كثرة التلاوة؟

man-muslim-reading-quran-sunset-sea-background_488220-12908

لماذا لم يبدأ القرآن بأمر الصلاة؟ تأملات في ترتيب الوحي

silhouette-view-goat-with-crescent-moon-mosque-sunset-beach-eid-al-adha-background_1167344-25064

عندما تُمنع الشعائر: ماذا لو غاب عيد الأضحى؟ القرآن يردّ

cropped-hand-person-holding-miniature-book-with-antique-key-white-background_1048944-19524880

3 دروس من القرآن لمواجهة إلغاء عيد الأضحى في زمن الأزمات

quran-muslim-mosque-with-imam-teaching-student-about-religion-tradition-culture-durin_1161995-2044

“عيد بلا أضحية؟” 3 تساؤلات يطرحها المسلمون

name-allah-arabic-green-leaves-background-means-god-islam-religion-kurban-bayraminiz_669151-7

3 حقائق تجعلك تتوقف عن القلق بشأن ‘مَنْ خَلَقَ الله؟

Shopping Cart
Review Your Cart
0
Add Coupon Code
Subtotal