يُثير ترتيب نزول الوحي القرآني تساؤلات عميقة حول الحكمة الربانية في اختيار تسلسلٍ معين للآيات، دون أن تُستهلّ الأحكام العملية الكبرى، مثل الصلاة، التي تُعدّ من أركان الإسلام الأساسية. فعند التأمل في بدايات التنزيل، نرى أن أول ما نزل من القرآن لم يكن أمراً بالصلاة أو الصيام، بل خمس آيات من سورة العلق، تدعو إلى القراءة والتأمل في الخلق: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” (العلق: 1). أما الصلاة، فقد جاء الأمر بها لاحقاً، في توقيت محسوب.
هذا الترتيب يفتح باباً واسعاً للتأمل العقلي: هل تأخير التشريعات العملية، كالصلاة، كان خطوة مدروسة ضمن منهج تدرّجي متكامل في الدعوة؟ وهل تعكس هذه البداية التركيز على بناء الوعي والمعرفة قبل الانتقال إلى الأحكام؟ في هذا السياق، سنسلّط الضوء على مجموعة من المواقف التي تفسّر هذا الترتيب الزمني، كما سنعرض آراء معاكسة، وصولاً إلى محاولة تقديم قراءة شاملة تدمج مختلف التفسيرات، مع طرح وجهة نظر مدعّمة بالأدلة والنصوص.
التدرج في التشريع وتربية الأمة
يرى عدد من كبار المفسرين، مثل محمد الطاهر بن عاشور، ومحمد عبد الله دراز، والشيخ محمد الغزالي، أن القرآن الكريم جاء بمنهج تدريجي حكيم، يأخذ بعين الاعتبار الحالة النفسية والعقلية للناس، خاصة في بداية عهد الدعوة. فقد كان المجتمع المكي حينها غارقًا في أعماق الجاهلية، يقدّس الأصنام مثل اللات والعزى ومناة، ويطوف حولها، ويقرّب لها القرابين، ويطلب منها الشفاعة، وهي مظاهر شركية متجذّرة في النفوس، لم يكن من الممكن اقتلاعها دفعة واحدة. ولهذا، اقتضت حكمة الله أن يبدأ الوحي بتأسيس العقيدة وتصحيح المفاهيم حول الألوهية والبعث والجزاء، قبل أن يُطلب من الناس أداء العبادات العملية. فالصلاة مثلًا – وهي علاقة روحانية تربط العبد بربه – لا تؤتي ثمارها الحقيقية ما لم يُغرس في القلب أولًا توحيد الله والخضوع له وحده.
ويستند هؤلاء العلماء في رأيهم إلى أن آيات المرحلة المكية ركزت بشكل كبير على ترسيخ الإيمان، في حين جاء التشريع العملي لاحقًا في المدينة، بعد أن نضجت العقيدة واستقرت. ويمكن تشبيه هذا النهج التربوي بطريقة تعليم الطفل؛ حيث نعلّمه النطق والتفكير قبل أن نُحمّله مسؤوليات وواجبات، فالبناء الحقيقي يبدأ دائمًا من الأساس، لا من السطح.
الصلاة تحتاج إلى تهيئة نفسية وروحية
في طروحات بعض الباحثين، مثل الدكتور محمد راتب النابلسي، نجد تأكيدًا على أن الصلاة لا تُختزل في حركات بدنية متكررة، بل تتجاوز ذلك لتُمثل حالة وجدانية عميقة من الخشوع والتواصل الروحي مع الله. هذا النوع من الاتصال لا يحدث تلقائيًا أو بشكل عابر، بل يتطلب استعدادًا نفسيًا وروحيًا يسبق لحظة الوقوف بين يدي الخالق. ويشمل هذا الاستعداد ترسيخ الإيمان في القلب، والتفكر في عظمة الله، وتنقية النفس من شوائب الشرك والعادات التي تُفرغ العبادة من معناها، بحيث يصبح الإنسان في حالة من الصفاء تؤهله لهذا اللقاء المقدس.
ولهذا، فإن التدرج الذي جاء به الإسلام في فرض الصلاة لم يكن عبثيًا؛ فلو أن القرآن بدأ منذ اللحظة الأولى في مكة بتكليف الناس بالصلاة، ربما لواجه الاتهامات بأنها مجرد طقوس ظاهرية لا تختلف كثيرًا عما اعتاده المشركون، الذين ورثوا أشكالًا من العبادة مثل الطواف والصلاة، لكنها كانت تفتقر إلى الروح والمعنى الحقيقي.
وعند النظر إلى بعض الديانات الأخرى، كالهندوسية مثلًا، نرى أن الممارسات الدينية فيها كثيرًا ما تُؤدى بشكل روتيني يخلو من الوعي القلبي أو التفاعل النفسي، حيث تُتلى التراتيل وتُقام الطقوس دون خشوع حقيقي عند عدد كبير من أتباعها، مما جعل بعض المنتقدين يعتبرونها مجرد تقاليد متناقلة لا أكثر. في المقابل، جاء الإسلام بمنهج تربوي يتدرج من الداخل إلى الخارج؛ بدأ بتنقية العقيدة وتطهير القلب، ثم جاءت الصلاة كترجمة صادقة لهذه العلاقة الروحية، كما يشير قوله تعالى في سورة العلق: “واسجد واقترب”، في إشارة إلى أن القرب من الله يتحقق بالسجود الصادق، قبل أن تفرض الصلاة بصيغتها الكاملة بعد حادثة الإسراء والمعراج.
الأولوية للعقيدة على العبادة
ذهب بعض العلماء إلى أن أول ما جاء به الإسلام هو تصحيح الانحراف في العقيدة، لأن العبادة التي تُؤدى دون عقيدة سليمة لا وزن لها ولا أثر حقيقي. فها هم مشركو قريش، أمثال أبي جهل وأبي لهب، كانوا يؤدّون بعض مظاهر العبادة كالصلاة والحج والطواف بالكعبة، ويتبعون طقوسًا دينية توارثوها جيلاً بعد جيل، لكنها كانت خالية من روح التوحيد، بل كانت ممتزجة بالشرك الصريح. فقد كانوا يزعمون أنهم يتقربون إلى الله عبر عبادة الأصنام، ويقولون: “ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى”. ورغم مظهر التدين الذي كانوا عليه، فإن عبادتهم كانت باطلة، لأنها افتقرت إلى الأساس الذي تقوم عليه العبادة الصحيحة: التوحيد.
من هذا المنطلق، كان من الحكمة والضرورة أن يبدأ القرآن في دعوته بتثبيت مفهوم التوحيد في النفوس، لأنه حجر الأساس الذي تُبنى عليه سائر الأحكام والعبادات، ولا تُقبل عبادة بدونه. ويعزز هذا الرأي أن النبي ﷺ قضى ثلاث عشرة سنة في مكة وهو يركز على ترسيخ الإيمان وتعميق العقيدة في القلوب، بينما جاءت تفاصيل العبادات والأحكام بعد الهجرة إلى المدينة، وهو ما يشير بوضوح إلى أن البناء العقدي الراسخ هو القاعدة التي تنطلق منها العبادة الحقة.
لو كانت الصلاة أساسية، فلماذا تأخرت؟
يثير بعض النقاد مسألة توقيت فرض الصلاة، إذ يرونها رابطةً مباشرة بين العبد وربه، وركنًا لا غنى عنه في صلب العقيدة. فهل يُعقل أن يُطلب من الناس الإيمان دون ممارسة روحية تُغذّيه وتعزّز جذوره؟ إن الإيمان النظري وحده قد لا يصمد طويلًا ما لم يُترجَم إلى سلوك يومي محسوس.
غير أن الرد على هذا الرأي يشير إلى أن المرحلة المكية، رغم غياب الصلاة بصورتها المألوفة، لم تكن خالية من أوجه العبادة. بل كانت مليئة بابتلاءات قاسية، من تعذيب ومقاطعة وأذى، تطلبت صبرًا عميقًا وثباتًا لا يلين. ومثل هذا الثبات، تحت وطأة المحن، لم يكن أقل منزلةً من الصلاة، بل شكّل نوعًا من “العبادة العملية” التي تعكس صدق الإيمان وعمقه.
ألا يُعتبر تأخير فرض الصلاة إهمالًا؟
يتساءل البعض إن كان تأخر فرض الصلاة يُعد نوعًا من التقصير في توضيح أحد أهم أركان الإسلام، طالما أن الصلاة تُعد “عماد الدين”. أليس من الطبيعي أن يُعرّف الناس بهذا الركن الجوهري منذ بداية الدعوة؟
لكن لفهم هذا الأمر لا بد من التمعن في طريقة نزول الوحي، فالحقيقة أن الصلاة لم تُغفل، بل وردت الإشارة إليها في آيات مبكرة من القرآن، وكان النبي ﷺ يُقيمها قبل حادثة الإسراء والمعراج. غير أن تفاصيلها الدقيقة والتكليف الواضح بها جاء لاحقًا، بما يتماشى مع نهج “التدرج” الذي اعتمده الإسلام في إرساء كثير من الأحكام.
وهذا التدرج لا ينبغي فهمه كتساهل، بل هو أسلوب تربوي رحيم يأخذ بعين الاعتبار حال الناس واستعدادهم، كما هو الحال في تحريم الخمر الذي جاء على مراحل.
هل كان المشركون سيقبلون الصلاة منذ البداية؟
بعض المفكرين يرون أن فرض الصلاة منذ اللحظة الأولى للدعوة كان من الممكن أن يواجه بردّة فعل شديدة من المشركين، وذلك بسبب التباين العميق بين شعائر الصلاة الإسلامية ومعتقداتهم الوثنية القائمة على تعدد الآلهة والطقوس الشكلية. لذلك، فإن تقديم الإسلام في بداياته على أنه دعوة خالصة للتوحيد، تهدف إلى تحطيم الأصنام وتحرير الإنسان من عبادة غير الله، كان خطوة تنمّ عن حكمة إلهية بالغة. ومع ترسّخ هذا التوحيد في النفوس، جاءت تفاصيل العبادات، وعلى رأسها الصلاة، بشكل تدريجي يراعي تهيئة النفوس واستيعابها دون أن يُنفرها من الدين الجديد.
ومن خلال مراجعة الآراء المتعلقة بتوقيت فرض الصلاة، يتّضح أن هذا التأخير لم يكن وليد صدفة أو تردد، بل كان انعكاسًا لحكمة ربانية عميقة تستند إلى اعتبارات تربوية وعقدية، تُمكّن الفرد والمجتمع من تلقي هذه الفريضة العظيمة بقبول واستيعاب يتناسب مع قدسيتها وأهميتها.
1. الأولوية العقدية
كان من البديهي أن تسبق العقيدةُ العبادة، فالإيمان هو الركيزة التي تُبنى عليها سائر الأعمال. فلا معنى لأن تُفرض عبادة عظيمة مثل الصلاة على قوم لم تُرسّخ في قلوبهم عقيدة التوحيد الخالص، ولم يثبت لديهم الإيمان بالله واليوم الآخر. ولهذا، جاءت الدعوة في مكة بدايةً لتغرس جذور الإيمان عميقًا في النفوس. وعندما استقر اليقين، أصبحت العبادات تعبيرًا عمليًا صادقًا عن ذلك الإيمان.
2. التهيئة النفسية
الصلاة ليست مجرد أداء حركات مكررة أو تقليد اجتماعي متوارث، بل هي رابطة روحية بين العبد وخالقه. ولهذا، كان لا بد من تهيئة القلوب والعقول لفهم مغزى هذه العبادة، واستقبالها بمحبة، لا كفرض ثقيل أو تكليف غامض. وقد جاءت هذه التهيئة عبر خطاب قرآني متدرج، يتوجه إلى النفس والعقل معًا، مما جعل الصلاة للمؤمنين حاجة روحية تُشبع القلب، قبل أن تكون فريضة تُؤدى بالجوارح.
3. المنهج التدريجي
اتبع الإسلام في تشريعاته مبدأ التدرّج، وهو أسلوب تربوي فعّال لإحداث تغيير عميق دون صدام مع واقع الناس. ولهذا، كانت الصلاة تُفرض تدريجيًا، حتى يتهيأ لها المجتمع الجديد ويألف هذا الالتزام الديني. ونجد هذا النهج أيضًا في تحريم الخمر وتغيير كثير من عادات الجاهلية، ما يعكس حكمة التشريع وحرصه على بناء مجتمع مستقر ومتماسك على المدى الطويل.
في صميم هذا التساؤل: “لماذا لم يبدأ القرآن بالأمر بالصلاة؟” يكمن تأمل عميق في حكمة التدرج في الوحي. فالعقيدة كانت البداية الراسخة، والعبادة ما هي إلا ثمرة ناضجة لهذا الجذر.
ناقشنا ثلاث زوايا أساسية لفهم هذا الترتيب: أولها التدرج في التشريع، ثم الحاجة إلى تهيئة النفس، وأخيرًا تقديم العقيدة على السلوك. وقد تناولنا بعض الاعتراضات وأجبنا عنها بعناية.
وهكذا، فإن تسلسل الوحي يكشف أن الإسلام ليس مجرد طقوس تؤدى، بل هو مشروع حياة يبدأ بإصلاح القلب ليُترجم في الأفعال. وهذا من عمق حكمة القرآن في دعوته وتنظيمه.