هل سبق ووقفت حائرًا أمام المصحف؟ ربما فتحته ونظرت في صفحاته متسائلًا: من أين أبدأ؟ ما السورة التي يحبها الله أكثر؟ هل أبدأ من الفاتحة وأكمل؟ أم أختار أي موضع وأقرأ؟ كثير من الناس يمرون بهذه اللحظة، يبدؤون القراءة لكن دون تركيز أو فهم، وأحيانًا يبتعدون تمامًا لأنهم ببساطة لا يعرفون كيف يربطون حياتهم بالقرآن.
الغريب أن هذا التشتت قد يكون بداية الصحوة. الإحساس بالضياع الروحي هو في الحقيقة دعوة داخلية للتفكر وإعادة التوجيه. ليس الكسل هو السبب الوحيد، بل في الغالب لأننا لم نفهم بعد القيمة العميقة التي تحملها كل سورة، ولم ندرك كيف رُتّب هذا الكتاب العظيم ليخاطب القلب قبل العقل. فنقرأ دون هدف واضح، ونفقد بذلك المعنى الذي يُحيي العلاقة بالقرآن.
القراءة العشوائية ليست الطريق الأمثل. فالقرآن نزل بحكمة، بترتيب، وبسياقات لا تُقرأ عبثًا. كل سورة جاءت لحكمة، وكل آية تفتح بابًا للهداية. من يقرأ دون تدبر يُفوّت الأثر، ويغلق قلبه عن النور الذي يحمله هذا الكتاب. قال تعالى: “كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب”.
ولهذا السبب نكتب لك الآن. لنبدأ معًا رحلة هادئة ومنظمة، نكتشف فيها السور الأقرب إلى الله، ولماذا هي كذلك، وكيف يمكن أن تغيّر علاقتنا بالعبادة، حتى وسط مشاغل اليوم. فالمسألة ليست كم صفحة تقرأ، بل كيف تقرأ، وبأي نية، وبأي قلب. لأن قراءة السور المحببة لله ليست فقط باب أجر، بل هي طمأنينة تسكن بها روحك، وزاد يومي يثبتك في زمن القلق.
وقد قال النبي ﷺ: “اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه” [رواه مسلم].
فهم أهمية السور المفضلة عند الله
قبل أن نبدأ البحث عن السور التي يحبها الله، من المهم أن نفهم أولاً لماذا يهمنا هذا الأمر. لا حرج في أن يسعى المسلم لمعرفة السور المحببة إلى الله، بل على العكس، هو دليل على صدق النية ورغبة قلبية في التقرب منه، والسير في طريق يرضيه. فالقرآن الكريم كله كلام الله، نزل من عنده، محفوظ في صدورنا ومصاحفنا، نقدّسه ونتلوه بخشوع وإجلال. ومع ذلك، نمر أحياناً كأناس بظروف تجعلنا لا نملك دائماً طاقتنا المعتادة أو وقتاً كافياً للتدبر والتعمق كما نحب.
تحت ضغط المسؤوليات اليومية، وتعب الجسد أو القلب، قد يجد المسلم نفسه في لحظة فتور، ويحتاج لما ينعش روحه ويعيد الطمأنينة إلى قلبه. وهنا يبرز دور بعض السور التي وردت في الأحاديث النبوية أو كانت جزءاً من عبادة النبي ﷺ، والتي تحمل رسائل قوية وروحاً خاصة، تعين المسلم على الثبات دون أن يشعر بثقل أو تشتت.
وقد علمنا رسول الله ﷺ، بحكمته، أن الفضل لا يكون دائماً في الكثرة، بل في الديمومة والنية، كما في الحديث الشريف: “أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل”. فقراءة سور ذات أثر عميق، خصوصاً في أوقات العجلة أو التعب، قد تكون وسيلة ذكية تقربنا إلى الله دون عناء كبير.
لذا، بدلاً من أن نقرأ بعشوائية دون تركيز أو فهم، يمكن للمسلم أن يضع لنفسه خطة واعية تبدأ بما يلمس قلبه من السور ويزيد من محبته للقرآن. فالهدف من التلاوة ليس مجرد أداء عبادة، بل أن نحيا بها، نخشع لها، ونتغير بسببها. والسور التي يحبها الله قد تكون المفتاح لذلك التحول.

هنا نتعرف على أحب السور إلى الله كما ورد في السنة
سورة الفاتحة تُعرف بأمّ الكتاب، وهي ركن لا غنى عنه في كل صلاة، فلا تُقبل الصلاة بدونها. وقد قال النبي ﷺ: “لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب” (صحيح البخاري). في هذه السورة، يناجي العبد ربَّه مباشرة، يجمع فيها بين التوحيد، والدعاء، والثناء، وكأنها مفتاح يُفتح به كل باب خير.
أما سورة الإخلاص، فهي قصيرة في ألفاظها عظيمة في معناها، تعدل ثلث القرآن كما أخبر النبي ﷺ بقوله: “قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ” (رواه مسلم). لما تحمله من توحيد خالص، تُملأ بها القلوب بعظمة الله، وتُجسّد أسمى صفاته.
وآية الكرسي، من سورة البقرة (الآية 255)، هي أعظم آية في كتاب الله، كما بيّن النبي ﷺ في حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه حين سأله: “يا أبا المنذر، أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟”، فأجاب: “الله لا إله إلا هو الحي القيوم”، فقال له ﷺ: “ليهنك العلم أبا المنذر” (رواه مسلم). هذه الآية المباركة تحفظ قارئها من الشيطان، وخصوصًا إذا قرأها قبل النوم.
وأما سورتي السجدة والإنسان، فقد كان النبي ﷺ يواظب على قراءتهما في صلاة فجر يوم الجمعة، كما ورد في صحيح البخاري، مما يدل على فضلهما في هذا اليوم المبارك. وهاتان السورتان تزخران بمشاهد عظيمة عن خلق الإنسان، والبعث، والسجود، وجزاء المؤمنين.
برنامج عملي مقترح:
شهريًا | أسبوعيًا | يوميًا |
اجمع بين هذه السور في يوم خلوة مع نفسك، اقرأها كلها بتأمل، واكتب ما فهمت منها. | فجر كل يوم جمعة، اقرأ سورتي السجدة والإنسان. | اقرأ سورة الفاتحة بتدبر في كل صلاة (كما هو واجب). |
علّم أولادك أو أحد المقربين فضائلها وشاركهم قراءتها. | خصص مرة في الأسبوع لتكرار سورة الإخلاص ثلاث مرات بنية نيل أجر ثلث القرآن. | بعد صلاة الفجر أو قبل النوم، اقرأ آية الكرسي وسورة الإخلاص. |
بهذا البرنامج البسيط، يمكن للمسلم، مهما كان مشغولاً، أن يحافظ على علاقة قوية مع سور يحبها الله، فتكون له نوراً، وطمأنينة، وسبيلاً للثبات في الإيمان.

الشعور بالحرية الروحية والإنتاجية
الآن بعد أن عرفت السور التي يحبها الله وبدأت فعلاً بقراءتها وتدبّرها، ستلمس شيئًا مختلفًا في حياتك. وكأن سكينة لطيفة بدأت تتسلل إلى قلبك، لأنك ببساطة تقرأ ما يُرضي الله، فتشعر بالقرب منه، برضاه، وكأنك محاط بنور يبدّد عنك التوتر والتشويش.
ستلاحظ أن الحيرة بدأت تتلاشى؛ فلم تعد تتنقل بين السور بلا وجهة، بل أصبحت تعرف ما له فضلٌ مؤكد، فصار طريقك في كتاب الله أكثر وضوحًا، وأكثر قربًا لما ترجوه. ومع هذا الصفاء الذي يتسلل إليك بهدوء، تزداد قدرتك على التركيز والإنتاج. فحين يطمئن القلب ويهدأ العقل، يصبح أداءك في العبادة والعمل أعمق وأصدق.
القرآن هو شفاء بالفعل، واهتمامك بالسور المحبوبة إلى الله كأنك تمسك بمفتاح يفتح أبواب السكينة والاستقرار في داخلك. لا تترك نفسك في دوامة الحيرة، خُذ بما صحّ وثبت عن النبي، وطبّقه دون تردد.
اجعل هذه السور نورًا يرافقك، يهديك، ويمنحك سكينة لا توصف. ومع الوقت، ستجد نفسك أكثر هدوءًا، أكثر اتزانًا، وأكثر قدرة على العطاء الحقيقي.
ابدأ اليوم، ودع شعارك في هذه الرحلة يكون دومًا: “أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.”