القرآن الكريم هو الكتاب الأزلي الذي أنزله الله، معجزة تتجاوز الزمان، ورسالة من السماء إلى الأرض، أودع الله فيه الهداية للناس، وجعل منه نورًا يمحو ظلمات الجهل، ورحمة واسعة للعالمين. هو أعظم مصادر التشريع، وأرقى سبل الهداية، وأحب ما تنشغل به قلوب المؤمنين وتطمئن له نفوسهم.
أما لفظ “القرآن”، فقد اشتُق لغويًا من جذر “قرأ”، الذي يحمل معنى الجمع والضم، ولهذا قيل: قُرئت الصحف، أي جُمعت. وهو مصدر على وزن “فُعلان”، يدل على التلاوة. وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن “القرآن” أصبح اسمًا خاصًا لهذا الكتاب الإلهي، لا يُطلق على غيره، ولا يُعرف في كلام العرب إلا للدلالة على ما أُنزل على النبي محمد ﷺ.
وفي الاصطلاح، يُعرف القرآن بأنه كلام الله المعجز، المُنزل على خاتم النبيين محمد بن عبد الله ﷺ، عبر الوحي بوساطة جبريل عليه السلام، والمكتوب في المصاحف، والمنقول إلينا بطريق التواتر، والذي يُتعبد بتلاوته، ويعجز الخلق عن الإتيان بمثله. فهو ليس مجرد نص يُتلى، بل خطاب إلهي يخاطب عقل الإنسان وروحه، ويرفعه إلى مدارج النور والهداية. ويكمن جوهر القرآن في كونه المصدر الأول للتشريع، والركيزة التي تقوم عليها العقيدة، وتُستقى منها الأحكام، وتُهتدى بها معالم الحياة. فيه تبيان لكل شيء: الحلال والحرام، الوعد والوعيد، القصص والعبر، والدعوة إلى مكارم الأخلاق. وهو الكتاب الذي لا يدخله الباطل، تنزيل من حكيم حميد.
أنزله الله ليكون دليلاً للناس، يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، فهو نورٌ للقلوب، وشفاءٌ للصدور، ورحمة تتنزّل على أهل الإيمان. قال تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ﴾ [الإسراء: 9].
1 - البُعد اللغوي والإعجاز البياني في القرآن الكريم
أ - بلاغة القرآن وأسلوبه الفريد
يمثّل القرآن الكريم أوجَ البيان العربي، وصورة لا نظير لها من حيث البلاغة والفصاحة، إذ أتى بأسلوب لغوي فريد يغاير تمامًا أساليب البشر، سواء أكان شعرًا أم نثرًا، متفرّدًا بخصائص دقيقة في التركيب والإيقاع وانتقاء الألفاظ.
فعلى صعيد التراكيب، يتميّز النص القرآني بدقة متناهية واتساقٍ بالغ، حيث يُعبّر عن المعاني بأقل العبارات دون خلل في السياق أو ضعف في البيان. من ذلك قوله تعالى:
﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47]، إذ جاءت كلمة “بأيد” – وهي جمع “يد” – لتعني القوة، مبرزة القدرة الإلهية بلفظ وجيز قوي الأثر.
وفيما يتعلّق بالإيقاع، فإن السجع في القرآن لا يتقيّد بنمط واحد كما هو الحال في النثر المسجوع، بل يتنوّع وفق السياق، مانحًا الآيات جرسًا موسيقيًا مؤثرًا يسهل حفظه ويترك أثرًا في النفس. مثال ذلك قوله تعالى:
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1-4]، حيث يظهر انسجام صوتي يعزّز المعنى ويعمّق التأثير.
أما من جهة المفردات، فيُلاحظ أن القرآن ينتقي ألفاظه بعناية فائقة تتماشى مع المعنى والسياق والمشاعر المتضمَّنة، كما في الفروق الدقيقة بين “نظر” و”رأى”، أو بين “غفور” و”رحيم”، مما يكشف عن ثراء تعبيري لا يُضاهى.
ب - التحدي البلاغي للبلاغاء العرب
عندما نزل القرآن الكريم، كان العرب قد بلغوا ذروة الفصاحة والبيان، وكانوا يتبارزون في أسواق مشهورة مثل سوق عكاظ بالشعر والخطابة، يفتخرون بحسن التعبير وقوة اللفظ. ورغم أن القرآن نزل بلغتهم، إلا أنه جاء بأسلوب خارق للعادة، لا يقدرون على مجاراته أو تقليده، وقد عجزوا عن الإتيان بمثله رغم فطرتهم اللغوية العالية.
وقد أعلن القرآن هذا التحدي في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى:
﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88].
ثم خُفِّف التحدي تدريجياً، فطُلب منهم أن يأتوا بعشر سور، ثم بسورة واحدة، كما في قوله:
﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ [البقرة: 23].
وبرغم شدة عدائهم للرسالة، عجز فصحاء قريش عن الإتيان بمثل القرآن، فاختاروا سلاح الحرب بدل سلاح الكلمة، مع أن الكلمة كانت أقوى ما يملكون.
- الإعجاز اللغوي في السور والآيات
يتجلى الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم من خلال تنوع أساليبه، ودقة تعبيره، وعمق دلالاته. ومن أروع مظاهر هذا الإعجاز:
قوله تعالى:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النور: 35]، حيث تأتي الآية في سياق بديع يفيض بالتصوير الرمزي، إذ يستخدم الله سبحانه صورًا مركبة—كالمشكاة والمصباح والزجاجة—ليرسم مشهدًا بصريًا وروحيًا مفعمًا بالمعنى، يعبّر فيه عن نور الهداية الربانية الذي يملأ الكون.
وفي قوله:
﴿فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ [البقرة: 60]، نلحظ براعة الإيجاز، حيث اختُصر مشهد عظيم—تفجّر المياه من حجر جامد—في عبارة وجيزة مشحونة بالإيقاع والدلالة، تُبرز قدرة التعبير القرآني على اختزال المعاني دون أن يُنتقص من عظمتها شيء.
- دور اللغة في إيصال المعاني والتأثير الروحي
لم تكن لغة القرآن مجرد وسيلة لنقل المعلومات، بل كانت – ولا تزال – نافذة عميقة إلى النفس والروح. طريقة بناء الجمل، الإيقاع الموسيقي للكلمات، وتكرار بعض الألفاظ؛ كل هذا يلامس الشعور ويهزّ القلب بلطف أو بعنف حسب المقام.
نأخذ على ذلك مثالاً من قوله تعالى:
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]
هنا، التكرار ليس مجرد إعادة، بل هو إيقاع نفسي يترسخ في القلب، فيمنحه طمأنينة حقيقية تنبع من الذكر.
وفي المقابل، نجد آيات الوعيد تنبض بإيقاع حاد، كما في قوله تعالى:
﴿نَذِيرًا مِّنَ النَّذِرِ الْأُولَىٰ، أَزِفَتِ الْآزِفَةُ، لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾ [النجم: 56-58]
تُشعرنا هذه الكلمات، بقصرها وحدة تعبيرها، بقرب الخطر، فتوصل الرهبة والخوف بإيجازٍ صارم لا يترك للروح مفرًا.
2 - البُعد التشريعي والقانوني
القرآن الكريم يُعدّ المصدر الأول والأساس للتشريع في الإسلام، فهو كلام الله العزيز الذي أوحاه إلى نبيه محمد ﷺ، ويُشكّل المرجع الأعلى الذي تصدر عنه الأحكام وتُبنى عليه القوانين. وقد احتوى على تشريعات واضحة تمس مختلف جوانب الحياة؛ سواء في العبادات كالصلاة والزكاة والصيام والحج، أو في المعاملات كالبيع والنكاح والميراث، فضلاً عن القواعد الأخلاقية والاجتماعية التي تهدف إلى بناء مجتمع يقوم على قيم العدل والرحمة والاستقامة.
يقول الله تعالى:
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105]
وهذه الآية تؤكد أن القرآن لم يُنزَّل لمجرد التوجيه الوعظي، بل ليكون مرجعًا يُحتكم إليه بين الناس.
رغم أن القرآن ليس كتابًا قانونيًا بالمعنى الفني الضيق، إلا أنه وضع أُسسًا ومبادئ عامة تصلح أن تُبنى عليها الأحكام في كل عصر ومكان. من أهم هذه المبادئ:
تحقيق المصلحة العامة ودرء المفاسد، وذلك عبر مقاصد الشريعة الكبرى كتحقيق العدل، وضمان الكرامة، وصيانة النفس والعقل والمال.
مرونة النصوص، حيث جاءت بعض الأحكام بصيغة مجملة، تُترك للاجتهاد بما يناسب الظروف المتغيرة والواقع المعاش.
ولهذا، ظل القرآن مرجعًا حيًّا يتجدد حضوره في كل تطوير تشريعي، طالما أُخذت مقاصده بعين الاعتبار.
ولا يمكن الحديث عن التشريع الإسلامي دون الوقوف عند العلاقة الوثيقة بين القرآن والسنة النبوية، إذ إن السنة جاءت لتُفصّل وتُوضح ما ورد في القرآن من أحكام عامة. فالنبي ﷺ بيَّن بكلامه وفعله كيفية تطبيق الزكاة، وأركان الصلاة، وأعمال الحج، وغيرها.
قال تعالى:
{وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزِّل إليهم} [النحل: 44]
وقد شكّل هذا التفاعل بين النص القرآني وتطبيقه النبوي الأساس الذي انطلق منه الفقهاء في اجتهاداتهم، مما أتاح للفقه الإسلامي مرونة استثنائية في مواكبة التحولات الاجتماعية مع الحفاظ على ثوابته.
العدل يُعتبر حجر الأساس في التشريع القرآني، وهو الميزان الذي أمر الله به في كل أمر. قال تعالى:
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90]
وهذا الأمر يشمل كل مجالات الحياة: من القضاء إلى التعاملات اليومية، ومن الخطاب السياسي إلى القيم الأسرية.
أما المساواة، فهي مبدأ أصيل في القرآن، لا يُفرّق بين البشر بحسب الجنس أو العرق أو الطبقة. قال تعالى:
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]
ومن مظاهر العدل الاجتماعي التي جاء بها القرآن:
{ولا تبخسوا الناس أشياءهم} [الشعراء: 183]
{ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق} [الإسراء: 33]
تدل هذه الآيات على مدى حرص القرآن على حماية كرامة الإنسان وحقوقه.
ومن أبرز سمات التشريع القرآني أنه يخاطب العقل والوجدان معًا. فهو لا يقتصر على إصدار الأوامر والنواهي بأسلوب جاف، بل يدعو إلى التفكير والتأمل، ويحفز الضمير الحيّ. فيقول:
{أفلا تعقلون؟}، {أفلا يتدبرون القرآن؟}، {أفلا ينظرون؟}
وتكرار هذه التساؤلات دليل على أن الإيمان المطلوب ليس إيمانًا تقليديًا جامدًا، بل وعيًا نابعًا من الاقتناع الحر والاختيار المسؤول.
فالقرآن لا يُوجّه الإنسان كآلة تُنفذ، بل يُنمّي لديه حسًّا داخليًا بالمسؤولية، ويمنحه مساحة للتفكر والقرار، ثم يحاسبه بناءً على ما اختاره عن قناعة.
3 - مفاهيم خاطئة وتفسيرات معاصرة في فهم القرآن الكريم
- القرآن والعنف: ضرورة فهم السياق
في كثير من الأحيان، يُتّهم القرآن الكريم بأنه يدعو إلى العنف أو يحثّ على القتال، ويستند البعض في ذلك إلى اقتطاع بعض الآيات من سياقها، مثل قوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5].
هذا النوع من الآيات غالبًا ما يُستخدم من قبل بعض المستشرقين أو الجهات التي تعادي الإسلام لتصوير النص القرآني على أنه مليء بالعنف.
لكن الواقع مختلف تمامًا؛ فهذه الآيات جاءت في سياق محدد، مرتبط بظروف حربية آنذاك، وكانت تتعامل مع حالة نقض العهد والاعتداء، ولم تكن بأي حال دعوة مفتوحة للقتل أو ممارسة العنف. بل جاءت وفق إطار من الضوابط الدقيقة، التي تؤكدها آيات أخرى من نفس السورة، مثل قوله تعالى:
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]،
وأيضًا قوله:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6].
بالتالي، فالقرآن لا يشرعن العدوان، بل يقر القتال في إطار الدفاع، ويؤكد في جوهره على قيم السلام والتسامح.
- المرأة في القرآن: بين الحقيقة والتحريف
من القضايا التي يكثر حولها اللغط مسألة مكانة المرأة في القرآن. فقد ساد اعتقاد لدى البعض بأن النص القرآني ينتقص من حقوق المرأة أو يدعم التمييز ضدها، مستدلين بآيات مثل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] أو {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].
غير أن فهم هذه الآيات لا يكتمل إلا ضمن إطارها التاريخي والاجتماعي، وفي سياق المنظومة التشريعية الكاملة التي يطرحها القرآن، والتي تؤكد على المساواة في الكرامة، وتمنح المرأة حقوقًا واضحة في الميراث، والتملك، والتعليم، والزواج، وتؤكد أن معيار التفاضل الحقيقي هو التقوى، لا الجنس، كما في قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وقد لجأ كثيرون إلى اجتزاء هذه النصوص لتبرير ممارسات اجتماعية ظالمة بحق المرأة، في حين أن القرآن نفسه جاء مناهضًا لأعراف الجاهلية التي كانت تنتقص من شأنها، ومنحها مكانة رفيعة كأم وابنة وزوجة.
- القرآن في زمن الحداثة: فهم جديد أم تحريف؟
مع تصاعد التيارات الحداثية في العالم الإسلامي، برز اتجاه يدعو إلى “قراءة معاصرة” للنص القرآني، يدّعي أن الفهم التقليدي لم يعد صالحًا لعصرنا. وبينما تحمل بعض هذه الدعوات نوايا صادقة لتجديد الخطاب، إلا أن بعضها تجاوز الضوابط العلمية وراح يؤوّل النصوص تأويلاً مجازياً يُفرغها من مضمونها، في محاولة لفرض قراءة “ليبرالية” أو “علمانية” تتصادم مع جوهر الدين.
هنا تظهر أهمية التمييز بين التجديد والتحريف. فالتجديد مطلوب، كما في حديث النبي ﷺ:
“إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”،
لكن هذا التجديد يجب أن ينطلق من أصول ثابتة، لا أن يُبنى على الهوى أو النظريات الغربية المنفصلة عن روح النص القرآني.
في الختام القرآن الكريم يبقى نورًا خالدًا برسالته الإلهية التي تتجاوز حدود الزمان والمكان، حاملاً بين آياته مبادئ روحية وأخلاقية تخاطب الإنسان في كل عصر. لا يقتصر حضوره على التلاوة فحسب، بل يحثّنا على التأمل في معانيه والعمل بها، ليغدو دليلًا حيًّا ينير دروب الحياة ويقوّي صلتنا بالله. وفي عالم اليوم المليء بالتحديات والتحوّلات، يقدم القرآن رؤية متكاملة للحياة، تزرع فينا قيم العدل والرحمة، وتساعدنا على فهم الواقع والتفاعل معه بوعي وإرادة إصلاحية صادقة.